ثقافة الأديب العماني محمّد الشحري: الثقافة مهدّدة بالنسيان إذا لم نكتبها للأجيال القادمة
أحبَّ تونس من خلال صورة طبعها فيه أستاذ درّسه في منطقة ظفار بسلطنة عمان. زاد تعلّقه بها عندما زارها لأوّل مرّة وقرّر الدراسة بمعهد التنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي. لم يتوقّف هذا الحبّ ونما فيه مثل كرة ثلج. يحمل في جيناته حبّ المغامرة والسفر مثل ابن بلده أحمد ابن ماجد، بحّار عمانيّ ساعد الرحالة البرتغالي فاسكو دي غاما في اكتشاف الطريق البحري للهند. حطّ رحاله مرّة أخرى في تونس، فأجرينا معه هذا الحوار.
محمد الشحري كاتب عماني له إهتمامات بالتراث وبالثقافة في بعديهما الكوني، فما مرّد ذلك؟
يعود سبب اختيار دراسة التراث واهتمامي به إلى أنّ ثقافتي ليست عربيّة بالمعنى السائد. ولدتُ أتحدّث اللّغة الشحريّة وهي من اللّغات العربيّة الجنوبيّة القديمة كما تصنّف ضمن الدراسات الجنوبيّة الحديثة. وهي احدى اللّغات الباقية لنا اضافة إلى المهريّة والسقطرية. وهذه اللّغات تحمل في ذاتها عوالم أخرى بكنوزها الثقافيّة، لكنّها تتعرّض للأسف إلى الاندثار وإلى النسيان كونها لغات غير مكتوبة. ولذا فإنّ الاهتمام بالبعد الانساني في هذه اللّغات هو همّ شخصي وعام بالنسبة لي لإعادة الاعتبار للإنسان في هذه الثقافات كثقافة عربيّة جنوبيّة، عبر الكتابة والدراسة الأكاديميّة. وأنا بصدد البحث حول آلهة ظفار، وهي المنطقة التّي ولدتُ فيها. كذلك اهتمامي بالحفاظ على هذه اللّغات عبر القوانين والتشريعات أو بما يسمّى الآن حقوق الانسان.
تصبُّ كلّ أعمالي الأدبيّة والبحوث ونشاطاتي الحقوقيّة كلّها في اعادة الاعتبار للثقافة التّي نشأتُ فيها، اللّغة الشحريّة عبر الأمثال والحكايات. اضافة إلى كونها منسيّة، فإنّ أصحاب هذه الثقافة غير مدركون لقيمتها الانسانيّة والثقافيّة التّي تحملها.
عرفت أيضا بدفاعك عن عديد القضايا ذات العلاقة بحقوق الإنسان، فهل لذلك علاقة بالمظلمة التّي طالت الهويّة الشحريّة في عمان؟
ليست اللّغة الشحريّة وحدها المعرّضة للنسيان في عمان. توجد الكثير من اللّغات الأخرى، ليست بالضرورة منطوقة ولكنّها ارتبطت بآداب وثقافات وأمثال. هناك المهريّة، الحرسوسيّة، وفي شمال السلطنة أيضا لغات تسمّى الكمزاريّة لا يلتفت اليها، بالاضافة إلى لغات أخرى دخلت مع أصحابها إلى عمان مثل البلوشيّة والسواحليّة. وقد طالبت بإدراج هذه اللّغات كلّغات وطنيّة في عمان. لست ضدّ الثقافة العربيّة فأنا عربيّ ولغتي عربيّة ولكن هذه اللّغات جزء من ثقافتنا، ووجدتْ على هذه الأرض فلماذا لا نحافظ عليها، باعتبارها جزء من التراث الشفوي اللاّمادّي.
أمّا بالنسبة لمجال حقوق الانسان، فأعتقد أنّه في دولنا العربيّة أو في دول العالم الثالث هو الخيار الوحيد الذّي يجب على الانسان اتّباعه في الدفاع عن حقوقه وواجباته بالطرق السلميّة الحديثة. فحقّ الرأي والتعبير وحقّ التجمع السلمي وحقّ تكوين الجمعيات هي حقوق لا زلتُ أرى أنّها مفقودة أو لم تؤمن بها حكومات دولنا العربيّة ودول العالم الثالث. أعتقدُ أنّه لا بدّ من حشد رأي عام للمطالبة بحقوقه ضمن إطار أممي ودولي وترسيخها في ما بعد. إذ لا نتحمّل واجبات دون حقوق، ولا يمكن المطالبة بحقوق دون تنفيذ الواجبات. يأتي هذا كلّه ضمن أسباب اشتغالي بمجال حقوق الانسان بمنطقة الخليج، وهو توجّه جديد على المنطقة بالمناسبة.
الـنــاشـط الـحـقـوقـي لـيـس مـعارضــا للأنـظـمـــة
عادة ما تلاحق الناشطين في المجال الحقوقي في العالم العربي تهمة خدمة الأجندات الخارجية، فهل التهمة في محلها؟
أفنّد الرأي القائل أنّ مناضلي حقوق الانسان ينفذّون أجندات خارجيّة أو هيمنة. لا أنزّه كلّ الناشطين، لكن ما أقوم به هو المطالبة بحقوقنا في بلداننا التّي لم تعرف مضامين حقوق الانسان إلا منذ عشر سنوات تقريبا. إذ نطالب بدساتير وفصل السلطات في دولنا الخليجيّة، إن استثنينا تجربة الكويت في المنطقة. نريد أن نوضّح الفرق بين الدولة والحكومة، الفرق بين النقد البناء والنقد الهدّام، وبين حريّة الرأي والتعبير وثقافة تكميم الأفواه. هنالك كثير من الأمور بحاجة إلى ترسيخ في دول الخليج، مثل أن نكون مواطنين لا رعايا وأن يترسّخ مفهوم المجتمع المدني بدل المجتمع الأهلي. إنّ الناشط الحقوقي ليس ناشطا سياسيا، لا ينتمي إلى حزب ولا يطالب بمطالب ذاتيّة لأجل مصلحة شخصيّة، بل لحقوق للجميع. الناشط الحقوقي ليس معارضا للأنظمة. ليس عدوا لأحد ولا يخدم مصلحة أحد. هو موكّلٌ فقط لأجل الجوهر والبعد الانسانيّين.
محمّد الشحري، من مواليد 1979 بظفار العمانيّة. صحفي وكاتب بعديد الصحف والمجلاّت(نزوى، القدس العربي،جريدة عمان). أصدر مجموعة قصصيّة بعنوان "بذور الدوار" سنة 2010 و"الطرف المرتحل 2013 و"موشكا" الصادرة في بيروت هذا الشهر. كما أنّه معدّ برنامج اذاعي بعنوان "النفائس المقتبسة" في الإذاعة العمانيّة وصاحب مدوّنة "ذاكرة ظفار"، هذا إلى جانب نشاطاته وخبراته في مجال حقوق الإنسان في عمان والعالم العربي.
متى تحرّك هذا الوعي الحقوقي فيك؟ وهل لمسقط رأسك "ظفار" التي شهدت أولى الثورات اليسارية علاقة بذلك؟
أوّلا، أعتقد أنّ الخلفيّة اليساريّة لديّ باعتبار أنّ منطقتي ظفار قد أوجدت فيها تجربة ثوريّة يساريّة استمرّت من أواسط ستينات القرن الماضي وبداية سبعيناته، ولا زلتُ أرى أنّ ذلك الحراك يحمل في ذاته حريّة الانسان، العدالة الاجتماعيّة، والحقوق والمساواة. وإن كانت راديكاليّة في مضمونها، إلاّ أنّ العنف محرّم لديَّ ولا أؤمن به اطلاقا، فكلّ ما نريده أن يتحقّق نطالب به بالطرق السلميّة وبالحوار والكتابة. أما عن تأثير تونس في أنشطتي الحقوقيّة فهي بلا شكّ ساهمت في اكتساب مضامين تلك الثقافة، إذ التحقتُ بمنظّمة العفو الدوليّة فرع تونس وكان يُسمح لنا بالنشاط في مكتب المقرّ فقط ولا نقيم أنشطة خارجه.
وقد تمثّلت لديّ تجربة المجتمع المدني التونسي كمثال لمجتمع رائد يجب أن يقترن به لدى العديد من الدول العربيّة، وأسوغ مثالا على ذلك الاتّحاد العام التونسي للشغل، الذّي دافع عن الطبقة الوسطى في تونس وساهم في دعم الثورة وحماها ويساهم الآن في تحديد ملامح المستقبل السياسي التونسي. وقد لفت انتباهي قوّة الطبقة الوسطى في تونس التّي لم يجر عليها محاولات التقطيع أو محاولة الابادة كما حدث في بعض الدول العربيّة التّي نفّذت سياسات البنك الدولي بحذافيره دون أيّ قراءة لواقع المجتمعات ومآلها. كلّ هذه العوامل انطبعت في داخلي وبعد أحداث 2011 زاد اهتمامي أكثر ودخولي في مجال المطالبة بحقوق الرأي والتعبير، حقّ التجمّع السلمي وتكوين الجمعيّات. وأطالب فيها علنا وأكتب مقالا أسبوعيّا في جريدة عمان.
ماهي أبرز الانجازات التي حقّقتها بفضل نضالاتك؟
هنالك درب طويل بانتظاري وثماره لا تأتي بسهولة. أعرف أنّني أخوض غمارا طويل الأمد. لكن هذه الثقافة تنتشر بواسطة الكتابة والأدب وقد تجد من يؤمن بها. وأشعر أنّني ساهمت بكتاباتي والتكوينات التّي أجريتها في نشر هذا الوعي. ساهمنا أيضا في الافراج عن بعض المعتقلين بعمان بفضل الكتابة عنهم وايصال صوتهم إلى الرأي العام العماني، الخليجي، العربي والدولي. فالناشط الحقوقي عليه مسؤوليّة كبيرة وعليه أن يتحمّلها وأن يكون ذا نفس طويل، والايمان بأنّ التغييرات ستنتفع بها الأجيال القادمة.
تحدّثت عن دور الكتابة والأدب في نشر الوعي الحقوقي، فما هي العلاقة بينهما؟
دعني أقول أوّلا ما قيمة الأدب وما قيمة الكتابة أصلا إن لم تكن تملك هذه النزعة الانسانيّة؟ فالدفاع عن الانسان وحقوقه ووجوده ورفع الظلم عنه هو واجب مقدّس عبر ايصال صوت المظلوم إلى الآخرين. فالكتابة تنقل هموم الانسان في أي بقعة كانت إلى صنّاع القرار أو من يملكون رفع الضيم والظلم عن الانسان بصرف النظر عن جنسه ولونه. وهذا ما تحتمله الكتابة والصحافة والإعلام. لم يخلق الاعلام للاستهلاك فقط، بل للدفاع عن الانسان باعتبار الصحافة صاحبة الجلالة في بلاط السلطة الرابعة التّي نعبّر عنها بوسائل الاعلام المختلفة التقليديّة منها والحديثة.
في روايتي "موشكا"، نقلت معاناة العاملين في مقاطع اللُّبان قبل مرحلة النفط
نقلت في رواياتك عديد القضايا وأبرزها معاناة الانسان بداية من مجموعتك القصصيّة الأولى "بذور البوار" وانتهاء بروايتك الأخيرة "موشكا"، فما هي أبرز دوافعك؟
في مجموعتي القصصيّة الأولى، حاولتُ ملامسة أو الاقتراب من بعض التجارب الانسانيّة في الثورة الظفاريّة التّي قدّمت عديد الشهداء، وقد ذهبت هذه التضحيات -وللأسف- سدى. وتنكّر لها بعض الرفاق أنفسهم. كذلك علاقة الانسان بالحيوان في منطقتنا، مثلا راعي ابل باع ناقته وفقد بذلك جزء من جانبه الروحي والمعنوي واستبدله بماديّات وكماليّات سرعان ما تبخّرت من يده.
في روايتي الأخيرة "موشكا" التّي صدرت حديثا عن دار سؤال اللّبنانيّة، حاولت نقل معاناة العاملين في منازل اللُّبان، المنزلة هي مقاطع استخراج اللّوبان، والذّي يستخرج في أسوء الظروف في درجة حرارة عالية. إذ أنّ أجود أنواع اللّبان لا يمكن انتاجها إلاّ في المناطق الحارة جدّا. والانسان الذّي يعمل في هذه المنازل فرضته عليه الظروف فرضا لرعاية من يكفله أو لإعالة أسرته أو لخلاص ديون والده. وحاولت ان أنقل معاناة ناس عاشوا في مرحلة ما قبل النفط في عمان والخليج بصفة عامّة. الانسان الذّي يشقى قبل وصول الأنشطة البتروليّة بالمنطقة التّي غيرت حياة مجتمعاتنا الخليجيّة. حاولت نقل معاناة أجدادنا وتصوّرها للقارئ وهي مرحلة كانت مختلفة تماما. يتقاسم صاحب المنزل الأرباح مع العمّال الذّين يعانون لأجل اطعام أناس آخرين. قضيّة لم يتناولها أيّ كاتب عماني من قبل أو خليجي آخر، وحاولت الانطلاق من الواقع المحلي ونقلها لقارئ العربي.
تطوّر الأدب الخليجي ما بعد النفط خاصّة في السنوات الأخيرة وصعد نجم بعض الأدباء مثل محمد حسن علوان، سعود السنعوسي، تركي الحمد وغيرهم. لماذا نلاحظ غيابا عمانيّا في ساحة الرواية العربيّة؟
الأدب الخليجي ما بعد النفط هو مشروع يُطرح على الأدباء الخليجيّين. فقد طغت الحياة الماديّة على هويّة الحياة الخليجيّة التّي تشكلت ما بعد النفط. تعرّضتْ الهوية إلى الكثير من الاهتزازات، وصار الانسان متواكلا ولا يبذل مجهودا. ذلك الانسان الذّي كان يعيش على الصيد، التجارة، الزراعة، الرعي وصيد اللؤلؤ لم يعد موجودا. موجود فقط في مسلسلات باهتة تعرض في الدراما كمادّة استهلاكيّة فاقدة للمضمون وللهمّ الانساني. فتصدّع الهويّة العربيّة الخليجيّة يعزى إلى توافد العمالة الأجنبيّة على مجتمعاتنا خاصّة من جنوب شرق آسيا، اضافة إلى تدخّل المستعمر الأجنبي في القضاء على الهويّة العربيّة واستبدالها بثقافات بديلة.
نعم، هنالك صعود للرواية الخليجيّة دون حضور أسماء عمانيّة بارزة،رغم دخول سليمان المعمري وجوخة الحارثي إلى للقائمة القصيرة للبوكر في سنوات ماضية. إلاّ أنّ الكاتب الكاتب العماني يتحمّل الجزء الأكبر من المسؤوليّة في عدم التعريف بنفسه لدى القارئ العربي. هذا بالاضافة إلى أنّ الاعلام العماني المحليّ لا يروّج للثقافة العمانيّة اللّهمّ الثقافيّة الفصليّة نزوى.أو ربّما لم تقنع الكتابات العمانيّة القارئ العربي، مثل ما صار مع "ساق البامبو" لسعود السنعوسي الذّي تعرّض كاتبها لقضيّة مسكوت عنها في الساحة الخليجيّة، ألا وهي قضيّة "البدون" وهم الفاقدون للجنسيّة والذّين نعتبرهم ضحايا للسياسات الخليجيّة. وهو همّ انساني بامتياز. فالفاقد للجنسيّة بالنسبة لي هو "صفر" إذا سلّمنا أنّنا أرقام في هذا العالم لدى وزارات الداخليّة. "البدون" لا رقم له، وقد نجحت الرواية في ايصال هذه المأساة الانسانيّة.
لماذا لم تختر الشعر كمحمل تعبيري، لماذا الرواية؟
فقد الشعر جزء كبيرا من قيمته بسبب التطوّر الاجتماعي والسياسي والثقافي، فلم يعد يتحمّل هموم الانسان المدني، بينما الرواية قادرة على استيعاب التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة عبر ايجاد متّسع ومتنفّس كبيرين من القول والبوح، وهي خصائص عجز الشعر عن توفيرها، الذّي يغلف بمعان وقوالب وتصورات خاصّة بزمان ومكان لم يعودا موجودين.فالرواية تتيح مجالا لإظهار معاناة ما أو أن نغمسها أو نخفيها. وفي جانب آخر، استسهل الشعراء الكتابة الشعريّة وأخرجوها من سياقها وجرى تمييعها ورصد جوائز كبيرة وتفضيل لمجالات شعريّة على أخرى ودخل فيها المال السياسي.
كانت الثقافة العربيّة قائمة على الشعر والآن يأتي دور السرد والحكايات وهي ليست دخيلة على مجتمعاتنا، فلدينا حكايات وأساطير يضع فيها الانسان مثله العليا، تصوراته، أبطاله، انتصاراته، نكساته وأحلامه بعالم أفضل. إذن فالرواية هي الحكاية القادرة على استيعاب مجتمعاتها والتعبير عن تفصيلاتها.
لاحظنا أنك بصدد نحت مسار تتشابك فيه الثقافة بحقوق الإنسان، فما هو الشئ الذي تريد نحته بالتحديد؟
المكان الذّي وجدتُ فيه هو أرض خصبة لعديدة الروايات. مازال هناك ما يحكي في ظفار على وجه الخصوص، والكثير من الجوانب في هذه الأرض الخصبة. ستتعرّض الثقافة هناك للنسيان إذا لم نكتبها للأجيال القادمة.كتابة الانسان في ظفار، علاقته بالبيئة، الدين، قناعاته وتمثّلاته للحياة. لا يمكن اختصار ذلك في رواية واحدة. لكن هناك أحداث طارئة قد تحدث يمكن أن تحفّزني للكتابة مثل علاقة الانسان بأخيه الانسان، بالسلطة وبالتحوّلات الجارية، في حياته( في القرية أو الجبل أو المدينة) . والحياة الماديّة بالخليج تحتاج إلى من يكتبها.
حاوره شوقي البرنوصي